“نص الفيلم الوثائقي “سابحة في فلكها

  • in
slide

أبواب السماء

(صعود صاروخ إلى الفضاء(
انطلاق! انطلاق!
هذه في أعين البعض هي حقاً لحظة التنوير الخالصة في قصة العلم الحديث؛ لحظة رباعية الأبعاد أطلقت في بعد جديد تماماً البحث الإنساني الطويل عن إجابات لتساؤلات جوهرية قديمة قدم التاريخ ذاته: من أين أتينا؟ وكيف حدث ذلك؟ وما هو مصير الإنسان؟ وغيرها من تساؤلات شغلت الجنس البشري لعصور وأحقاب.
لقد كانت العلاقة الحية بين الأرض والسماء؛ بين البنية الأرضية والأجرام السماوية واقعة دوماً في مركز الفكر الإنساني منذ أشرق فجر الضمير.
وقد سجّل الإنسان عبر آلاف السنين من التاريخ المكتوب تعطّشه الدائم الذي لا يروى إلى ينابيع المعرفة.
وفي الوقت الذي أسفر فيه هذا البحث المستمر عن أساطير حفظتها أكثر من حضارة في العالم القديم بدأ منذ قرون فلاسفة وعلماء أوائل بحوثاً متصلة عن إجابات تشرح العلاقة بين الأرض والسماء.
وعندما حلّ الظلام حتى قبل وصول العصور الوسطى قدر للبحث الإنساني أن يتواصل ولعدة قرون مكتسباً في كل يوم أرضاً جديدة. وقد أسهم هذا الجهد بشكل بارز في ميلاد العصر الحديث.
وعندما بدا أن شعلة المعرفة على وشك أن تنطفئ نجح بعض الرجال الشجعان على الرغم من كافة العقبات في التقاط الشعلة. وهكذا اكتسب البحث عن إجابات “علمية” زخماً جديداً.
وقد أدت القفزة الهائلة في جميع حقول المعرفة البشرية خلال المائة عام الماضية إلى أن ينجح الإنسان في أن يخطو خطوة صغيرة للمرة الأولي…..فوق سطح عالم آخر!

هذا ما قاله أول إنسان يهبط على القمر نيل آرمسترونج Neil Armstrong حين هبوطه:
“إنها خطوة صغيرة لإنسان،
ولكنها قفزة هائلة للإنسانية!”

ومنذ تلك اللحظة الفارقة تابع الإنسان جهوده الحثيثة ليرتاد بشجاعة آفاقاً واسعة في العلم والاكتشاف…وحتى في الخيال!
إن قفزة حرة في الفضاء يتخيلها فنان تبدو كما لو كانت المنفذ الوحيد لملامسة السماء…قفزة مدفوعة بالتوق الإنساني القديم نحو التحليق بعيداً في الفضاء، فربما تعرّف “هناك” على مكانه في الكون. هو “هناك” الآن؛ مأخوذاً بروعة الدهشة في محاولته الصعود صوب ما بدا لآلاف السنين حدوداً ممنوعة تحول بينه وبين أن يطرق تلك الأبواب الكونية العظمى………….أبواب السماء.

وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ {15/14} لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ {15/15} (سورة الحجر، الآيتان 14 و15(

سابحة في فلكها

هاتان ظاهرتان قد لا يتأملهما كثير من الناس لكثرة الألفة والاعتياد. إن التعاقب الدائم لضوء النهار بدأ يحدث منذ خلقت المجموعة الشمسية كما يذهب العلماء قبل حوالي أربعة بلايين وخمسمائة مليون عام.
ولكن الحقيقة أننا نحيا بهذا التعاقب.
بالنسبة لفلكي قديم مستنير يعرّف النهار بأنه الفترة التي يستغرقها كوكب ليتم دورة كاملة حول محوره، فإن الإشارة القرآنية إلى خلق الليل والنهار وفق تتابع منتظم لا يتغير ستكون محوراً لمقولة مثيرة للتفكّر.
لأنه لكي يتم التتابع بين الظاهرتين يلزم أن يكون الانتقال ناتجاً عن حركة دؤوبة لا تتوقف لكوكب دائري حول محوره.
وفي حالة كوكب الأرض فإن تتابع الليل والنهار ذاته ينبئنا بأن الكوكب مستدير وفي حالة حركة دائرية.
كان مفهوم الكوكب المستدير موضوعاً للتخمين في عدة حضارات قديمة. وقد أشار فلاسفة اليونان في القرن السادس قبل الميلاد إلى أرض مستديرة وإن لم تخل تصوراتهم من بعض الغموض. غير أنه بحلول القرن الثالث قبل الميلاد كان العلم الإغريقي قد أسس لفكرة استدارة الأرض.
ولم يتم التحقق العملي من استدارة الأرض إلّا عندما أتم الملاح البرتغالي ماجلانMagellan دورة بحرية حول الأرض في رحلة مليئة بالمصاعب بين عامي 1519 و1521 كلفته حياته في نهاية المطاف. وكان على الإنسانية أن تنتظر لأربعة قرون بعد ماجلان لكي تحصل على الدليل النهائي لكروية الأرض. ففي الثاني عشر من أبريل من عام 1961 نجح أول إنسان في الفضاء السوفييتي يوري جاجارينYuri Gagarin في الدوران حول الكوكب في ساعة واحدة وثمان وأربعين دقيقة في مركبته الفضائية فوستوك 1Vostok وتلت تلك الرحلة رحلات أخرى أميركية ودولية في الفضاء كان من ثمارها تزويدنا بثروة من المعلومات حول كوكبنا.
لقد ظلت فكرة ثبات الأرض ومركزيتها في الكون مسيطرة على الفلكيين طوال 1500 عام منذ كتب بطليموس الإسكندري دراسته المعنونة “المجسطي” Almagest في القرن الأول للميلاد. كان النموذج البطلمي كغيره من النماذج التي سبقته مقبولاً عالمياً تقريباً حتى ظهور نموذج أبسط خلال الثورة العلمية يعتمد مركزية الشمس. كان هذا تطوّراً تاريخياً أحدثه نشر كتاب الفلكي البولندي نيكولاس كوبيرنيكوسNicolas Copernicus المعنون “في حركة الأقاليم السماوية” في عام 1543.

في كتابها المميز المنشور في عام 2002 بعنوان “زينة الدنيا” تذهب الباحثة الإسبانية ماريا روزا مينوكال Maria Rosa Menocal إلى أن الإسهام القيم للعلماء المسلمين في إسبانيا المسلمة في العصور الوسطى لنحو 700 عام في مجالات علمية عدة من بينها علوم الفلك، قد تم ويتم تجاهله أو تقليل شأنه عن عمد في كثير من الكتابات الغربية، بينما أرجع الكاتب الأميركي برين بارناردBryn Barnard إنجازات هؤلاء العلماء إلى “عبقرية الإسلام” في كتاب له بنفس العنوان صدر في عام 2011 وأضاف له عنواناً فرعياً هو: “كيف صنع المسلمون العصر الحديث”.
لقد استلهم الفلكيون المسلمون آيات قرآنية مثل تلك التي وردت في سورة الأنبياء وسورة ياسين وهم يقومون بدراساتهم الفلكية القائمة على الملاحظة والاستنتاج. لقد أدت بحوثهم إلى إثبات مركزية الشمس في مجموعتها. إن أعمال الخازن وأبي ريحان البيروني وابن الشاطر والقزويني والطوسي والزمخشري وفخر الدين الرازي مع آخرين كانت تترجم إلى اللاتينية وتقرأ في مكتبات الأندلس خلال ثلاثة قرون ممتدة من القرن الحادي عشر إلى القرن الثالث عشر للميلاد محققين سبقاً بيناً على اكتشاف كوبرنيكوس لمركزية الشمس بمائتي عام على الأقل.
ولنأخذ مثلاً كتاب الرازي المرجعي “التفسير الكبير” (المنشور في نحو عام 1179). كتب يقول فيه: “إنه على الرغم من أن الأرض قد وصفت في آية بأنها مُستقر، فهي توصف في آية أخرى باعتبارها كوكباً وكرة سماوية؛ كرة أرضية تدور حول الشمس. وإذا ما سئلتُ كيف يعيش الناس والكائنات على أرض مستديرة في الوقت الذي تدور فيه حول الشمس، فإن إجابتي ستكون أن الكوكب من الكبر بحيث أن المساحات المنبسطة عليه ممهدة بما يكفي لكي تستوعب حياة الكائنات كلها فوقه”.
في خلال زمن التنزيل القرآني في النصف الأول من القرن السادس للميلاد كانت الحصيلة المعرفية للعالم تقول بحركة الشمس حول أرض ثابتة. وعلى الرغم من الإجماع على الاعتقاد بمركزية الأرض في ذلك الوقت إلّا أن هذا المفهوم لا يظهر على الإطلاق في أي موضع في القرآن. بل على العكس يذكر القرآن في أكثر من آية أن كافة الأجرام السماوية تتحرك في حركة دائمة وفي أفلاك أعدت لها.
وكانت المعارضة لمركزية الشمس هائلة على كافة المستويات حتى النصف الأول من القرن السابع عشر. وللدلالة على قوة المعارضة يستشهد عالم الفلك كارل ساجانCarl Sagan في كتابه “نقطة زرقاء باهتة: رؤية لمستقبل الإنسان في الفضاء” المنشور في عام 1994 – يستشهد بما كتبه الكاردينال، والقديس فيما بعد، روبرتو بيلارمينو Roberto Bellarmino مفكر الفاتيكان اللاهوتي في بداية القرن السابع عشر. كتب بيلارمينو يقول: “…ولكن أن نصر على القول بأن الشمس ثابتة حقاً في مركز السموات وأن الأرض تدور بسرعة عالية حول الشمس لهو قول خطير ليس منغصاً للاهوتيين والفلاسفة وحسب بل يؤذي معتقداتنا المقدسة ويجعل من كتابنا المقدس شيئاً زائفاً”.
لا عجب في أن يكون بيلارمينو نفسه هو من ترأس محاكمة غاليليوGalileo لاعتقاده الكافر في مركزية الشمس والتي حكم عليه فيها بأن يدين نفسه ويتبرأ من نتائج بحوثه الفلكية وإلّا واجه الحرق حياً. واضطر غاليليو إلى إعلان التوبة أمام الملأ ووضع قيد الإقامة الجبرية في منزله حتى وفاته في عام 1642.
بقدر ما كانت حجج بيلارمينو مخالفة للعلم ستبدو أسانيده “عقلانية” عند مقارنتها بخريطة رسمها في عام 1893 أورلاندو فيرجسون Orlando Ferguson “لأرض مسطحة”! ففي خطوة بيلارمينوية يرفق فيرجسون خريطته بنص يحتشد بمجموعة من النصوص الإنجيلية التي تدين استدارة الأرض وحركتها معاً. ويلخّص فيرجسون مقولته في عنوان خريطته وعناوين فرعية منه:
“هذه خريطة للأرض…مربعة وثابتة”…
…”إن هناك 400 مقطع في الإنجيل يدين بشدة من يزعم بكروية الأرض وتحرّكها في فضاء دون أن يمسكها شيء”…
“هذه هي الخريطة الإنجيلية للعالم”.
ولم يكن فيرجسون فريداً في مفهومه. فقد احتفل تراث العصور الوسطى الأوروبية كله بهذه الفكرة الغريبة. وعلى الرغم من أنها لم تعاود الظهور في الكتابات البحثية الجادة منذ عام 1920، إلّا أنها وللمفاجأة ظلّت حاضرة في منتجات الثقافة الشعبية الأوروبية والأميركية وفي بعض النصوص المدرسية حتى ستينيات القرن العشرين!
ولكن القرآن الكريم، في اتفاق مع علم الفلك الحديث، يؤكد قبل أربعة عشر قرناً على كروية الأرض وحركتها وحركة الشمس والقمر وسائر الأجرام السماوية في أفلاك مقدرة لها…كل في فلك يسبحون.
إن آية قرآنية تذكر لنا تعاقب الليل والنهار تكشف بذاتها عن كثير مما لم يكن معروفاً في زمن التنزيل. نقرأ في الآية الخامسة من سورة الزمر:
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ {39/5}

ترد الكلمة القرآنية “يكوّر” في الآية في الزمن المضارع لتبيان استمرارية التكوير. كما أنها تعني صناعة شيء على شكل كرة. وهكذا فإن طبيعة الأرض الكروية قد اتضحت تماماً لقارئ القرآن منذ 1432 عاماً كما هي الآن لقارئ اليوم والغد. إن وصف الأرض بهذا الشكل الدقيق لم يكن معروفاً في أي مكان في زمن التنزيل. ولتوضيح قاطع لطبيعة الأرض أورد القرآن كلمة “يكوّر” وهي فعل يصف تكوير العمامة على الرأس – ذلك الملبس الشائع لدى ثقافات شرق أوسطية وبعض ثقافات أخرى. وتكوير الليل على النهار في حلقات متصلة هو ذاته الفعل الدؤوب بتكوير الضوء حول الأرض. ومن ثم تعني الكلمة حتمية كروية الأرض لكي يكون لفعل التكوير معنى ونتيجة.
الولوج – المعنى العربي “الدخول التدريجي” لكل من الليل والنهار مع حركة التكوّر.

يخبرنا القرآن عن ظاهرة لا يستطيع ساكن الأرض حتى مجرد تخيلها. لقد استلزم الأمر التحليق في الفضاء قبل خمسين عاماً حتى يعاينها الإنسان. ففي الآية الأربعين من سورة المعارج يقسم الله تعالى بمشارق ومغارب متعددة:
فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ {70/ 40}
إن مشاهداً من الفضاء وحده يستطيع أن يخبر عن هذه الظاهرة. رائد الفضاء هوزيه هيرنانديزJose Hernandez كان ضمن طاقم رحلة مكوك الفضاء الأميركي ديسكفريDiscovery STS – 128 في رحلته إلى محطة الفضاء الدولية في الثامن والعشرين من أغسطس من عام 2009.
قال هيرنانديز:
“كنا نكمل دورة حول الأرض كل 90 دقيقة
ولذا كنا نرى مشارق ومغارب كثيرة”

ويشير القرآن في عدة مواضع إلى تحركات الشمس والقمر وفق نظام دائم محكوم بتناسق مطلق. هذا ما نجده في الآية الأربعين من سورة يسين:
لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ {36/40}

إشارة علمية تليها إشارة أخرى. علّق ريتشارد فارلي كبير مفتشي شرطة لندن الكبرى على فهوم الأقدمين والمحدثين لها قائلًا:
“أظن أنه ربما لم تكن تلك الإشارات مفهومة في زمن تنزيل القرآن،
ولذا فإن كثيراً من جهود المفسّرين اتجهت إلى فهمها بمعان أخرى،
وبالتالي كانت تفسيرات تلك المعاني للآيات التي نكتشفها اليوم غامضة آنذاك”.

تشير كلمة يسبحون بظلالها العاطفية الضافية إلى فعل الطفو في حركة ذات أناقة وجمال أخاذ. ويطيب للمرء أن يستمع هنا إلى وصف عالم الفيزياء الفلكية جيفري مارسيGeoffrey Marcy للمجموعة الشمسية. قال: ” لقد اصطفت الكواكب كلها على نفس السطح. وكنا جميعاً ندور في نفس الاتجاه. هل تعلمون أن هذا هو الكمال؟ نسق بديع نكاد لا نصدق أنه طبيعي”.

وعلى الفور تذكرنا كلمة الكمال في عبارة مارسي بالآية السادسة من سورة قاف:
أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ {50/6}
كون كامل ونسق بديع في مشهد يحرك المشاعر بإحساس غامر بالدهشة يدعو إلى الخشوع أمام جلال المصمم العظيم لهذا الكون.
ولا يحرّك هذا المشهد الشعراء وحدهم ولكننا لا نفاجأ حين نعلم أنه يصيب بعض العلماء أيضاً!
عالم الفيزياء ميتشيو كاكوMichio Kaku يحكي عن أينشتين:
“رأى أينشتين في صنع الله النظام والتناسق والجمال والبساطة والأناقة.
هذا هو الإله الذي آمن به لأن الكون بديع في خلقه،
ولو كان وليد صدفة لما كان بهذا النظام والجمال”

Share this post Leave a comment

عن المؤلف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *